العناية بحديث الغدير
ولهذه الامور وغيرها ـ التي أكسبت حديث الغدير ويومه أهميةً وامتيازاً عن غيره من الأحاديث والأيام التي صدع فيها الرسول الكريم صلى اله عليه وآله وسلم بهذا النبأ العظيم ـ اشتدت عناية أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم بإثباته ونشره بين الامة بشتى الوسائل والطرق ، وبقائه في الأذهان وعلى الألسن على مدى الأعصار ، حفظاً لشأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصيانةً له عن أن ينسب إليه التقصير في الابلاغ ، فيكون هو السبب فيما نشأ بعده من الاختلاف ، ووقع من النزاع ، حول الخلافة... وإعلاناً لحقهم في الامامة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله عزوجل... وأن ماآل إليه أمر الخلافة لم يكن لله ورسوله فيه نص... نعم ناشد أمير المؤمنين عليه السلام الأصحاب بهذا الحديث في مناسبات ومواضع عديدة ، حفظ لنا التاريخ منها: يوم الشورى... حيث استشهد به ـ فيما استشهد ـ وأذعن الحاضرون بما قال (19).
وفي حرب الجمل (20).
وفي صفين (21).
وفي الكوفة... حيث نشد الحاضرين (22) ، فأجاب جمع ، واعتذر بعض بالنسيان... كما سنشير.
والصديقة الزهراء... احتجت به في كلام لها (23).
وكذلك سائر أئمة أهل البيت وأعلام العترة... (24)...
وقوم من الأنصار ـ فيهم : أبوأيوب الانصاري ، خزيمة بن ثابت ، عمار بن ياسر ، ابن التيهان.. ـ إذ دخلوا على أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة فقالوا :
السلام عليك يا مولانا.
قال : وكيف أكون مولاكم وأنتم عرب ؟
قالوا : سمعنا رسول الله صلى الله عليه واله يقول يوم غدير خم : « من كنت مولاه فعلي مولاه » (25).
بل احتج به بعض الاصحاب من خصومه :
فقد احتج به سعد بن أبي وقاص في جواب معاوية حيث طلب منه سب أمير المؤمنين عليه السلام (26).
وأحتج به عمرو بن العاص في كتاب له إلى معاوية (27).
شواهد حديث الغدير
ويشهد بثبوت حديث الغدير ، ودلالته على إمامة الأمير عليه السلام أمور كثيرة... نتعرض لبعضها :
فمنها : قضية المرتد الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال :
« يا محمد ! أمرتنا من الله أن نشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله ، وبالصلاة والصوم والحج والزكاة ، فقبلنا منك. ثم لم ترض بذلك ، حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهل هذا شيء منك أم من لله ؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والله الذي لا اله إلا هو ، إن هذا من الله.
فولّى الرجل ـ يريد راحلته ـ وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم.
فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر ، فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله.
فأنزل الله تعالى ـ وهي الاخرى من الآيات النازلة في قضية الغدير ـ :
( سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع * من الله ذي المعارج ) (28).
ومنها : حديث الغدير بلفظ : « من كنت اولى به من نفسه فعلي وليه » (29).
ومنها : أنه قيل لعمر بن الخطاب : إنك تصنع بعلي شيئا ما تصنعه بأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله !!؟
فقال : « إنه مولاي » (30).
ومنها : قول ابن حجر المكي في مقام الجواب عن الاستدلال بحديث الغدير :
« سلمنا انه أولى ، لكن لا نسلم أن المراد أنه أولى بالامامة ، بل بالاتباع والقرب منه ، فهو كقوله تعالى : ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ) ولاقاطع ، بل ولا ظاهر على نفي هذا الاحتمال ، بل هو الواقع ، إذ هو الذي فهمه أبوبكر وعمر ، وناهيك بهما من الحديث ، فإنهما لما سمعاه قالا له : أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة. أخرجه الدارقطني.
وأخرج أيضاً انه قيل لعمر : إنك تصنع بعلي شيئاً تصنعه بأحد من أصحاب النبي.
فقال : إنه مولاي » (31).
فلو سلمنا ان المراد هو الأولى بالاتباع ، فهل الأولى بالاتباع إلا الإمام ؟!
مواقف متناقضة
وتناقضت مواقف الصحابة والتابعين من حديث الغدير... فالشيخان يهنئان... وحسان ينشد... وجماعة يشهدون... وآخرون يحتجون..
وفي المقابل : الفهري يشكك في نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم...
وابوالطفيل يستنكر... حيث يقول :
« فخرجت وكأن في نفسي شيئاً ، فلقيت زيد بن أرقم ، فقلت له : إني سمعت علياً يقول كذا وكذا. قال : فما تنكر ! ؟ قد سمعت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يقول ذلك له » (32).
وجماعة يكتمون ، فيدعو الامام عليه السلام عليهم ، منهم : عبد الرحمن بن مدلج ، جرير بن عبد الله البجلي ، يزيد بن وديعة ، زيد بن أرقم ، أنس بن مالك ، البراء ابن عازب.
أخرج أحمد بإسناده عن عبد الرحمن بن ابي ليلى : « أنه شهد علياً في الرحبة قال :
أنشد الله رجلاً سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشهد يوم غدير خم الا قام ، ولا يقوم إلا من رآه.
فقام اثنا عشر رجلاً فقالوا : قد رأيناه وسمعناه حيث أخذ بيده يقول : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله. إلا ثلاثة لم يقوموا. فدعا عليهم فأصابتهم دعوته » (33).
وفي رواية ابن الاثير : « وكتم قوم فما خرجوا من الدنيا حتى عموا وأصابتهم آفة » (34).
وفي رواية المتقي : « وكتم قوم فما فنوا من الدنيا حتى عموا وبرصوا » (35).
ويقول الراوي : « أتيت زيد بن أرقم فقلت له : إن ختناً لي حدثني عنك بحديث في شأن علي يوم غدير خم. فأنا احب أن أسمعه منك.
فقال : إنكم معاشر أهل العراق فيكم ما فيكم.
فقلت له : ليس عليك منّي بأس.
فقال : نعم ، كنا بالجحفة... » (36).
ويقول آخر : « قلت لسعد بن أبي وقاص : إني اريد أن أسألك عن شيء وإني أتقيك :
قال : سل عما بدا لك فإنما أنا عمك.
قال : قلت : مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكم يوم غدير خم... » (37).
ويقول آخر : «... فقلت للزهري : لا تحدث بهذا بالشام وأنت ملء اذنيك سب علي.
فقال : والله عندي من فضائل علي ما لو حدثت لقتلت » (38).
وجاء دور العلماء...
من محدثين ومتكلمين... فالأكثر يروون خبر الغدير... وحديثه... كما هو الواقع (39) وقد أوقفناك على بعض المصادر... ومنهم... من يكتمه... تبعاً لبعض أسلافه من الصحابة... ومنهم... من لايروي صدره ، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ ».
ومنهم... من لا يروي ذيله ، وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلم : « اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ».
لكن كل هذا لا يجدي نفعاً.. إذ الاعتراض.. كما فعل الفهري.. كفر يستتبع العذاب... والكتمان... كما فعل قوم.. كبيرة تستتبع الخزي... والتحريف... خيانة تكشفها الأيام... فليكن كل ذلك... لكن بصبغة علمية... إنه التشكيك في دلالة الحديث... وهذا الموقف أيضاً ـ وإن كان ممن لايبالي بما يخرج من فيه أو يقال فيه ـ يدل بدوره على أنه نبأ عظيم... هم فيه مختلفون...